عوامل نشوء مدينة سـلمية أمين قداحة
العوامل الطبيعية :
1- الموقع الجغرافي : يعد الموقع الجغرافي واحداً من أهم المفاهيم الجغرافية إن لم يكن أهمها على الإطلاق [1]
. وتأتي أهمية موقع مدينة سـلمية من خلال محيطه القريب والبعيد، من حيث ما يشتملان عليه من عناصر ومقومات يرتبط بها موقع مدينة سـلمية بعلاقات مكانية ـ بشرية ـ حيوية .
فمن حيث الموقع الجغرافي الأصغر لمدينة سـلمية أو الموقع الفعلي,فإن مدينة سـلمية بتخطيطها قديماً وحديثاً تشكل نظاماً تقليدياً من حيث الشوارع المستقيمة المتقاطعة ,وأن لم تكن قديماً بهذه الاستقامة التي نشهدها اليوم , ومن حيث المركز الذي تشغله غالباً مباني الإدارة و مرافق الحياة العامة .كما أن أهمية موقعها الفعلي تأتي أيضاً من حيث توضعها على هضبة تمتد غرباً حتى مسافة ليست ببعيدة عن سفوح جبل عين الزرقاء في الغرب .
أما بالنسبة لموقع مدينة سلمية الأوسط، أي بالنسبة لمحيطها القريب,فهي تشكل مع مدينتي حمص وحماه مثلثاً متساوي الساقين، قاعدته حماه ـ سلمية كما أسلفنا في منطقة زراعية، وعلى تقاطع طرق التجارة بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب .
وبالحديث عن موقعها الأكبر، فإن أهميته تأتي من خلال مدى تأثيرها على محيطها وقد يتعدى ذلك المحيط إلى حدودٍ بعيدة، فلسـلمية أهمية تاريخية كبيرة تأتي من خلال ما شهدته مروجها من معارك كانت فصل الختام للدولة الأموية . و لكونها أصبحت مقرأ لأحد فروع العباسيين فيما بعد , ومركزاً للهاشميين المناوئين للخلافة العباسية في بغداد, و من قلبها انطلقت الخلافة الإسلامية الثالثة أي الخلافة الفاطمية …..
2- مظاهر سطح الأرض : تأتي أهمية أشكال سطح الأرض من كونها تؤدي دوراً كبيراً في تحديد طبيعة امتداد المدينة ونمط حياة سكانها … , إذ أن البشر عموماً جنحوا منذ غابر الأزمان إلى بناء تجمعاتهم السكنية في سفوح الجبال القليلة الانحدار وفي المنخفضات والوهاد التي تقع بين الجبال، وعلى الهضاب حيث الموارد أوفر وإمكانية البناء أسهل, والظروف الطبيعية أكثر مواءمة من غيرها في المناطق الأخرى [2] وإمكانية تحصينها ضد الغزاة أسهل وأسرع .
ولا يخفى على أحد منا أن معظم هذه الشروط متوفرة في موقع مدينة سـلمية من حيث الجبال والهضاب والموارد والظروف الطبيعية .
3-المياه : لايغيب عن بالنا أن سر الحياة هو الماء وقد تجلى ذلك في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [3] وهذا السر هو ما دفع هيرودوت للقول : " أن مصر هبة النيل" ..
فمن المعروف جيداً أن هناك علاقة وثيقة بين توزع الأمطار وتوزع البشر على سطح الأرض، وكذلك توزع مراكز العمران بما في ذلك المدن، ولا سيما في المناطق السهلية ذات درجات الحرارة الملائمة للعيـش و النشاطات البشرية المتنوعة [4] .بالإضافة إلى ذلك فإن توزع الينابيع والعيون المائية يؤدي دوراً هاماً في توزع المراكز العمرانية، عدا عن الأهمية البالغة والمتزايدة للمياه الجوفية القريبة من سطح الأرض، وهنا تظهر عبقرية الإنسان في ابتداع أساليب متنوعة بغية استنباط هذه المياه واستجرارها وتوزيعها كما هو الحال في مدينة الأقنية سـلمية .
العوامل الاقتصادية والبشرية لنشوء مدينة سـلمية
اقتصادياً :
أ ـ الزراعة
لقد ارتبط نشوء المراكز العمرانية القديمة عبر التاريخ بمهنة الزراعة ، التي كانت ولا زالت تلعب دوراً هاماً في حياة سكان هذه المراكز العمرانية, سواء أكانت مراكز ريفية أم مدنية, ولئن كانت وظائف المدن غير زراعية فهذا لايعني بالضرورة أنه لايوجد أحد من سكان هذه المدن يعمل بالزراعة ..
ويأتي ارتباط سكان المراكز الريفية بمهنة الزراعة من كونها تعد نشاطاً أساسياً وأسلوباً ووسيلة معشيةٍ لاغنى عنها بالنسبة لسكان هذه المراكز .
كما تظهر أهمية الظهير الزراعـي الذي يحيط بالمراكز العمرانية للمدينة , والذي يتمثل بالمساحات الزراعية ، التي تزرع فيها مختلف أنواع المزروعات (( حبوب ـ أشجار مثمرة ـ خضار ..... الخ )), وتربى فيها الحيوانات الداجنة . وتزداد أهمية الظهير الزراعي كلما كان خصباً وواسعاً , وتتوفر له مياه الري إضافة للمناخ الملائم للإنتاج الزراعي[5] .
وهذا ما توفر لموقع مدينة سـلمية الجغرافي، من حيث السهول الواسعة الخصبة والمياه الوفيرة المستجرة بالأقنية , مما سمح بقيام زراعات واسعة ساعدت على قيام مراكز عمرانية رديفة لمدينة سـلمية توزعت حولها كقرى صغيرة , ما لبث بعضها أن اتسع وتطور … .
ولا يفوتنا التذكير بأن أهمية أي ظهير زراعي بالنسبة للمراكز العمرانية المدنية , لاتقتصر على أوقات السلم , إذ أنها تبدو أكثر أهمية في أوقات الحرب أو الأزمات … ، ففي حالات الحصارات العسكرية التي قد يضربها الغزاة على منطقة ما, تبرز أهمية الموقع الجغرافي من الناحية الاقتصادية وذلك من خلال قدرته على تأمين مستلزمات الصمود ورفد المدن المجاورة بالمؤن والمساعدات [6] , فمثلاً عندما تعرضت مملكة قطنة " المشرفة " لهجمات القبائل البدوية في النصف الثاني من الألف الثانية ق.م,لعبت سلمية دوراً حيوياً وبارزاً في دعم مملكة قطنة , واستعادتها لمكانتها وأهميتها بما قدمته سـلمية من دعم مادي من خلال ما تمتعت به أراضيها من خيرات وخصب ووفرة في الإنتاج [7] .
ب ـ التجارة : لعبت التجارة كظاهرة بشرية هامة دوراً بارزاً في نشوء المراكز العمرانية, ونموها وتطورها في الماضي والحاضر وسيتمر هذا الدور حتى في المستقبل, فمن المعروف تاريخياً أن الكثير من مراكز السكن البشري نشأت في البداية كمحطات على طرق المواصلات التي كانت تسير عليها القوافل التجارية على أساس التبادل السلعي أو المقايضة, ومع مرور الزمن وتزايد أعداد السكان نمت وازدهرت معظم تلك المراكز العمرانية , بحيث أصبح الكثير منها في مصاف المدن حسب المقاييس والمعايير الحضارية المتعارف عليها عبر مختلف المراحل التاريخية [8] .
وخير مثال على ذلك مدينة تدمر عروس البادية السورية, التي لاتزال أطلالها تشمخ حتى يومنا هذا . كذلك بينت لنا محفوظات إبلا " تل مرديخ " أن التجارة كانت أساس قوة مملكة إبلا، التي أقامت علاقات تجارية وثيقة مع الكثير من الممالك المعاصرة لها سواءً أكانت في بلاد الرافدين أم في مصر وحتى في جزيرة قبرص وأسيا الصغرى . وكما كانت أوغاريت عاصمة التجارة العالمية عبر البحر المتوسط، فأنه لايمكننا أن ننسى دور الآراميين في أواخر الألف الثانية والنصف الأول من الألف الأولى ق.م كتجار عالميين ، ومنشئين للمدن التي وصل بعضها إلى مصاف الممالك والدول، في كل أصقاع سوريا وحتى خارج حدودها السياسية كمحطات تجارية إضافة لدورها السياسي والاقتصادي البارز في تاريخ بلدان حوض المتوسط وخاصة خلال الألف الأولى ق.م [9] .
ونحن في هذا الصدد يكفينا أن نحدد موقع مدينة سـلمية على أي مصورٍ لسوريا لندرك سريعاً الأهمية التجارية لهذه المدينة ,التي شكلت عبر تاريخها الطويل عقدة للمواصلات والتجارة بين البادية والحاضرة شرقاً وغرباً وبين الشمال والجنوب .
بشرياً " سكانياً " : لقد توفر لموقع مدينة سـلمية الخزان البشري الكافي على مر العصور , حيث قسمت المهام فيه بين البدو والحضر , فكانت مزيجاً نادراً قلما نراه في مراكز عمرانية أخرى .
ولطالما كانت سـلمية مركزاً لنشاطٍ بشري واسع , وكانت وما زالت تلعب دور الجسر بين نمطي معيشة متباينين , هما البادية والحاضرة , وهذا ينطبق إلى حد كبير على التعريف الذي قدمه الباحث الروسي " دياكونوف " للمدينة البابلية في الألف الثانية ق.م إذ يقول : إن المدينة هي مركز للمنطقة المجاورة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية و.. الخ [10]
أمين قداحة
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
صافيتا ، محمد ـ د. عدنان عطية : جغرافية المدن والتخطيط الحضري ، منشورات جامعة دمشق 2005 ، ص54 .
[2] صافيتا : جغرافية المدن .. ، المرجع نفسه ، ص 57 .
[3] سورة الأنبياء / آية 30 / .
[4] صافيتا : جغرافية المدن .. ، مرجع سابق ، ص 59 .
[5] صافيتا , محمد ـ د. عدنان عطية : جغرافية العمران ، دمشق ، 2003 ، ص127 .
[6] قماش ، فيصل عزام : " دراسات في التطور العمراني وتخطيط المدن " ، دمشق 1990 ، ص 66 – 65 .
[7] قداحة ، أمين ـ نزار كحلة : سـلمية تاريخ وحضارة مقال في مجلة عاديات حلب ، عدد خاص عن مدينة حماه ، العدد الأول ، حلب 2008 ، ص 64 .
[8] صافيتا : جغرافية المدن ، مرجع سابق ، ص 140 .
[9] عبد الله ، فيصل ـ د. عيد مرعي : مدخل إلى تاريخ الحضارة ـ ط 4 ، منشورات جامعة دمشق 2002 ، ص 136 .
[10] غولايف : المدن الأولى ، ترجمة طارق معصراني ، دار التقدم موسكو 1989 ، ص 15 .